فصل: رمضان جلبي المذكور سنة 1139

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **


 رمضان جلبي المذكور سنة 1139

واستمرت ابنته في عصمة المترجم حتى ماتت في المحرم سنة 1182 وعمرها ستـون سنـة‏.‏

وكانـت مـن الصالحـات الخيـرات المصونـات وحجـت صحبتـه فـي سنـة إحـدى وخمسين وكانت به بارة وله مطيعة‏.‏

ومن جملة برها له وطاعتها أنها كانت تشتري له من السرارى الحسان من مالها وتنظمهن بالحلي والملابس وتقدمهن له وتعتقد حصـول الأجر والثواب لها بذلك وكان يتزوج عليها كثيرًا من الحرائر ويشتري الجواري فلا تتأثر من ذلك ولا يحصل عندها ما يحصل في النساء من الغيرة‏.‏

ومن الوقائع الغريبة أنه لما حج المترجم في سنـة سـت وخمسيـن‏:‏ واجتمـع بـه الشيـخ عمـر الحلبـي بمكـة الوصـي بـأن يشتـري لـه جاريـة بيضاء تكون بكرًا دون البلوغ وصفتها كذا وكـذا فلمـا عـاد مـن الحـج طلـب مـن اليسرجيـة الجواري لينقي منهن المطلوب فلم يزل حتى وقع على الغرض فاشتراها وأدخلها عند زوجته المذكورة حتى يرسلاه مع من أوصاه بإرسالها صحبته‏.‏

فلما حضر وقت السفر أخبرها بذلك لتعمل لهم ما يجب من الزوادة ونحو ذلك فقالت له‏:‏ إني أحبيت هذه الوصيفة حبًا شديدًا ولا أقدر على فراقها وليس لي أولاد وقد جعلتها مثل ابنتي والجارية بكت أيضًا وقالت لا أفارق سيدتي ولا أذهب من عندها أبدًا‏.‏

فقال‏:‏ وكيف يكون العمل قالت ادفع ثمنها من عندي واشتري أنت غيرها ففعل‏.‏

ثم إنها أعتقتها وعقدت عليها وجهزتها وفرشت لها مكانًا علـى حدتهـا وبنـى بهـا فـي سنـة خمـس وستيـن وكانـت لا تقـدر علـى فراقهـا ساعـة مـع كونهـا صارت ضرتها وولدت له أولادًا‏.‏

فلما كان في سنة اثنتين وثمانين المذكورة مرضت الجارية فمرضت فقامـت الجاريـة فـي ضحـوة النهـار فنظـرت إلى مولاتها وكانت في حالة غطوسها فبكت وزاد بها الحال وماتت تلك الليلـة فأضجعوهـا بجانبهـا فاستيقظـت مولاتهـا آخـر الليـل وجستهـا بيدهـا وصارت تقول‏:‏ إن قلبي يحدثني أنها ماتت ورأيت في منامي ما يدل على ذلك فلما تحققت ذلك قامت وجلس وهي تقول لا حياة لي بعدها وصارت تبكي وتنتحب حتى طلع النهار وشرعوا في تشهيلها وتجهيزها وغسلوها بيـن يديهـا وشالـوا جنازتهـا ورجعـت إلـى فراشهـا ودخلـت فيسكـرات المـوت وماتت آخر النهار وخرجوا بجنازتها أيضًا في اليوم الثاني‏.‏

وهذا من أعجب ما شاهدته ورأيته ووعيته وكان سني إذ ذاك أربع عشرة سنة‏.‏

واشتغل المترجم في أيام اشتغاله بتجويد الخط فكتب على عبد الله أفندي الأنيس وحسن أفندي الضيائي طريقة الثلث والنسخ حتى أحكم ذلك وأجازه الكتبة وأذنوه أن يكتب الإذن على اصطلاحهم ثم جـود فـي التعليـق علـى أحمـد أفنـدي الهنـدي النقـاش لفصـوص الخواتـم حتـى أحكـم ذلـك وغلـب على خطه طريقته ومشى عليها وكتب الديواني والقرمة وحفظ الشاهدى واللسان الفارسي والتركي حتـى أن كثيرًا من الأعاجم والأتراك يعتقدون أن أصله من بلادهم لفصاحته في التكلم بلسانهم ولغتهم‏.‏

وفي سنة أربع وأربعين اشتغل بالرياضيات فقرأ على الشيخ محمد النجاحي رقائق الحقائق للسبط المراديني والمجيب والمقنطر ونتيجة اللادقي والرضوانية والدرلابن المجدى ومنحرفات السبط وإلى هنـا انتهـت معرفـة الشيـخ النجاحـي‏.‏

وعنـد ذلـك انفتـح لـه البـاب وانكشـف عنـه الحجـاب وعـرف السمت والارتفاع والتقاسم والأرباع والميل الثاني والأول والأصل الحقيقي والمعدل وخالط أرباب المعارف وكل من كان من بحر الفن غارف وحل الرموز وفتح الكنوز واستخرج نتائج الدر اليتيم والتعديل والتقويم وحقق أشكال الوسايط في المنحرفات والبسائط والزيج والمحلولـات وحركـات التداويـر والنطاقـات والتسهيـل والتقريـب والحـل والتركيـب والسهام والظلال ودقائق الأعمال وانتهت إليه الرياسة في الصناعـة وأذعنـت لـه أهـل المعرفـة بالطاعة وسلم له عطارد وجمشيد الراصد وناظره المشتري وشهد له الطوسي والأبهري وتبوأ من ذلك العلم مكانًا عليًا وزاحم بمنكبه العيوق والثريا وقدم القدوة العلامة والحكيم الفهامة الشيخ حسام الدين الهندي وكان متضلعـًا مـن العلـوم الرياضيـة والمعـارف الحكميـة والفلسفيـة فنزل بمسجد في مصر القديمة واجتمع عليه بعض الطلبة مثل الشيخ الوسمي والشيخ أحمد الدمنهـوري وتلقـوا عنه أشياء في الهيئة فبلغ خبره المترجم فذهب إليه للأخذ عنه فاغتبط به الشيـخ وأحبـه وأقبل بكليته عليه فلم يزل به حتى نقله إلى داره وأفرد له مكانًا وأكرم نزله وقام بأوده وطالع عليه الجغميني وقاضي زاده عليه والتبصرة والتذكرة وهداية الحكمة لأثير الدين الأبهـري ومـا عليهـا مـن المـواد والشـروح مثـل السيـد والميبـدى قـراءة بحـث وتحقيق وأشكال التأسيس في الهندسة وتحرير إقليدس والمتوسطات والمبادئ والغايات والأكر وعلم الارتماطيقي وجغرافيا وعلم المساحة وغير ذلك‏.‏

ثم أراد أن يلقنه على الصنعة الإلهية وكان من الواصلين فهيـا فغالطه عن ذلك وأبت نفسه الاشتغال بسوى العلوم المهذبة للنفس وكان يحكي عنه أمورًا وعبـارات وإشـارات تشعر بأنه كان من الكمل الواصلي في كل شيء ولم يزل عنده حتى عزم على الرحلة وسافر إلى بلاده‏.‏

وقدم إلى مصر الإمام العلامة الشيخ محمد الغلاني الكشناوي وسكن بدرب الأتراك فاجتمع عليه المترجم وتلقى عنه علم الأوفاق وقرأ عليه شرح منظومة الجزنائية للقوصوني والدر والترياق والمرجانية في خصوص المخمـس الخالـي الوسـط والأصـول والضوابط والوفق المئيني وعلم التكسير للحروف وغير ذلك وسافر الشيخ إلى الحج وجاور هناك فلما رجع أنزله عنده وصحبته زوجته وجواره وعبيده وكمل عنده غالب مؤلفاته ولم يـزل حتـى مـات كمـا تقـدم ذكـر ذلـك فـي ترجمتـه ولقـي المترجـم فـي حجاتـه الشيخ النخلي وعبد الله بن سالم البصري وعمر بن أحمد ابن عقيل المكي والشيخ محمد حياة السندي الكوراني وأبو الحسن السندي والسيد محمد السقاف وغيرهم وتلقى عنهم وأجازوه وتلقوا هم أيضًا عنـه ولقنه الشيخ أبو الحسن السندي طريق السادة النقشبندية والأسماء الإدريسية‏.‏

وهذه صورة إجازة الشيخ عمر بن أحمد بن عقيل ومن خطه نقلت‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى خصوصًا أفضل أنبيائـه وعترتـه الطاهريـن وصحابتـه أجمعيـن‏:‏ وبعـد فـإن مما تطابقت عليه النصوص وتوافقت عليه ألسنة العموم والخصوص أن الباحث عن السنة الغراء لاتباع هدى سيد الأنبياء الموجب لمحبة ذي الآلاء والنعماء هو الفائـز بالقـدح المعلـى والمرفـوع إلـى المقـام الأعلـى ومـن المعلـوم أنه لم يبق في زماننا ما يتداول منها إلا التعلـل برسـوم الإسنـاد بعـد انتقـال أهل الزمان والناد فذو الهمة هو الذي يثابر على تحصيل أعلاه وينافس في فهم متنه ويفحص عن معناه ويناقش في رجاله الذين عليهم مغناه ألا وهو الشيخ الأجل الراقي بعزمه المتين من العلم والعمل إلى أعلى محل سيدنا وأستاذنا الشيخ حسن بن المرحوم إبراهيم بن الشيخ حسن الجبرتي أمده الله بالمدد الإلهي فطلـب مـن هـذا الفقيـر أن أجيـزه فلما لم أجد بدًا من الامتثال قلت سائلًا التوفيق في الأول والفعال‏:‏ أجزت مولانا الشيخ حسـن المذكـور المنـوه بذكره أعلى السطور أجزل الله تعالى له الأجور ما يجوز لي وعني روايته منـن مقـروء ومسمـوع وأصول وفروع بشرطه المعتبر من تقوى الله والصيانة وضبط الألفاظ وسير الرجال والديانة حسبما أجازني بذلك شيوخ أكابر عدة هم في الشدائد عدة ومنهم بل من أجلهـم سيـدي وجـدي لأمـي بعـد أن قـرأت عليـه جانبًا كبيرًا من كتب الحديث وغيره قراءة تحقيق وتدقيق وغيره من الشيوخ أهل التوفيق وقد سمع مولانا الشيخ حسن منـي أوائـل البخـاري ومسلـم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والموطأ فليروعني المجاز المذكور متى شاء مما اتصلت بي روايته متى أراد رفع سند أو كتاب لمن هو منن أهل الدراية وهو دام أنسه وزكا قدسه في غنية عن ذلك ولكن جرت العادة بأخذ الأكابر عن الأصاغر تكثيرًا لسوادنا فهي سنة الأوائل والأواخر‏.‏

وكذلك أجرت له بالصلاة المشهورة النفع بهذه الصيغة‏:‏ اللهم صل على سيدنا محمد وآله كما لا نهاية لكمالك وعد كمالله حسبما أجازني بها مولانا الشيخ طاهر ابن المـلا إبراهيـم الكوراني عن شيخه حسن المنوفي مفتي الحنفية بالمدينة سابقًا عن شيخه مولانا الشيخ علي الشبراملسي عن بعض أجلاء شيوخه وأمره أن يصلي بها بين المغرب والعشاء بلا عدد معين وبالمواظبة عليها يظهر نتائج فتحها خصوصًا لمبتغي هذا العلم المجد في طلبه من ذويه نفعه الله تعالى بالعلم وجعله من أهليه وقد أجزت الشيخ المذكور ضاعف الله تعالى له الأجور بالأسماء الأربعينية الإدريسية السهروردية بقراءتها وإقرائها لخل صادق إن وجـد كمـا أجازني بذلك جملة من الشيوخ وقد اتصل سندي بها أيضًا عن مولانا وسيدنا الأمجد مولانا الشيخ أحمد بن محمد النخلي أنزل عليه شآبيب الرحمة والغفران الواحد العلي وهو يرويها عن الشيخ حجازي الدير بي عن الشيخ شهاب الدين أحمد بن علي الخامي الشنـاوي وأجـازه شيخه أيضًا بشرحها للشيخ عثمان النحراوي‏:‏ قال الشيخ عثمان‏:‏ أجازني بالأسماء الإدريسية العظام الشيخ كمال الدين السوداني وهو يرويها عن شيخه أبي المواهب أحمد الشناوي عن السييد صبغة الله أحمد عن السيد وجيه الدين العلوي عن الحاج حميد الشهير بالشيخ محمد الغوث عن الحاج حصور عن أبي الفتح هدية الله سيرمست عن الشيخ قاضن الستاري عن الشيخ ركن الدين حينوورى عن الشيخ يابوتاج الدين عن السيد جلـال الديـن البخـاري عـن الشيخ ركن الدين أبي الفتح عن الشيخ صدر الدين أبي الفضل عن الشيخ أبي البركات بهاء الدين زكريا عن شيخ الشيوخ شهاب الديـن السهـروردي عـن سيـدي وجيـه الديـن المعـروف بعمويه عن الشيخ أحمد أسود الدينوري عن الشيخ ممشاد الدينوري عن الشيخ أبي القاسم الجنيـد البغـدادي عـن خالـه سـري السقطـي عـن الشيـخ معـروف الكرخـي عن الشيخ داود الطائـي عـن الشيـخ حبيـب العجمـي عـن سيـد التابعيـن حسـن البصـري عـن إمام المشارق والمغـارب سيدنـا علـي بـن أبـي طالـب عـن سيدنا ومولانا سيد الخلق حبيب الحق عبده ورسوله وحبيبه وصفيه وخليله النبي الرسول الحاوي لجميع الكمالـات الأصليـة والفرعيـة الجامـع لكـل الصفات السنية والمراتب العلية المبعوث لكل الخلق المتخصص بالقرب من العالـم الحـق سيـد الكونيـن والثقليـن والفريقيـن مـن عـرب ومـن عجم محمد صلى الله عليه وسلم قال ذلك بفمه وكتبه بقلمـه أسيـر ذنبـه عمـر بـن أحمـد بـن عقيل السقاف بأعلوى حفيد مولانا الشيخ عبد الله بن سالم البصـري غفـا الله تعالى عنهم أجمعين سائلًا من الشيخ المذكور أن لا ينساني وأصولي ومشايخي فـي الديـن وجميـع أقاربـي من صالح الدعوات في خلواته وجلواته وحركاته وسكناته وأوصيه بما أوصي به نفسي وسائر المسلمين من ملازمة التقوى وكمال الاستعداد واتبـاع سبيـل الهـدى والرشاد وأسأل الله تعالى الكريم المنان أن يوفقني وإياه والمسلمين لصالح القول والعمل ويجنبنا الخطأ والزلل ويجعلنا من العلماء العاملين والهداة الراشدين وأن يميتنا على سنة سيد المرسلين صلـى اللـه عليـه وسلم وعلى آله وصحابته أجمعين في كل وقت وحين‏.‏

وللمترجم أشياخ غير هـؤلاء كثيـرون اجتمـع بهـم وتلقـى عنهم وشاركهم وشاركوه مثل علي أفندي الداغستاني والشيخ عبد ربه سليمان بن أحمد الفشتالي الفاسي والشيخ عبد اللطيف الشامي والجمال يوسف الكلارجـي والشيـخ رمضـان الخوانكـي والشيـخ محمـد النشيلـي والشيخ عمر الحلبي والشيخ حسين عبـد الشكـور المكـي والشيـخ إبراهيـم الزمـزي وحـس أفندي قطعة مسكين وأحمد أفندي الكرتلي والأستـاذ عبـد الخالـق بـن وفـي وكـان خصيصًا به وأجازه بالأحزاب وهو الذي كناه بأبي التداني وألبسه التاج الوفائي والسيد مصطفى العيدروس وولده السيد عبد الرحمن والسيد عبد الله العيدروسـي والشيـخ علـي بنـدق الشناوي الأحمدي وكثير من المشايخ الأزهرية مثل السيد محمد البنوفـري والشيـخ عمـر الإسقاطي والشيخ أحمد الجوهري والشيخ أحمد الدلجي بن خال المترجم والشيخ أحمد الراشدي والشيخ إبراهيم الحلبي صاحب حاشية الدر والسيد سعودي محشي مـلا مسكيـن وغيرهـم مـن الأكابـر والأخيـار وأهـل الأسـرار والأنوار حتى كمل في المعارف والفنون ورمقتـه بالإجلـال العيـون وعـلا شأنـه علـى علمـاء الزمـان وتميز بين الأقران وأذعنت له أهل الأذواق وشاع ذكره في الآفاق ووفدت عليه الطلاب البلدانية والواردون من النواحي الآفاقية وأتوا إليه مـن كـل فـج يسعـون لميقاتـه ولزمـوا الطواف بكعبة فضله والوقوف بعرفاته فمنهم من ينفر بعد إتمام نسكه وبلوغ أمنيته ومنهم من يواظب على الاعتكاف بساحته وكان رحمه الله عذب المورد للطالبين طلق المحيا للواردين يكرم كل من أم حماه ويبلغ الراجي مناه والمقتفي جدواه والراغب أقصى مرماه مع البشاشة والطلاقة وسعـة الصـدر والرياقـة وعـدم رؤيـة المنـة علـى المحتـدى ومسامحة الجاهل والمعتدى مع حسن الأخلاق والصفات التي سجدت لها الخناصر كأنها آيات سجدات وكانت ذاته جامعة للفضائل والفواضل منزهة عـن النقائـص والرذائـل وقـورًا محتشمـًا مهيبـًا فـي الأعيـن معظمـًا فـي النفـوس محبوبـًا للقلـوب لا يعـادي أحـدًا ولا يخاصـم علـى الدنيا فلذلك لا تجد من يكرهه ولا من ينقم عليه في شيء من الأشياء وأما مكارم الأخلاق والحلم والصفح والتواضع والقناعة وشرف النفس وكظم الغيظ والانبساط إلى الجليل والحقير كل ذلك سجيته وطبعـه مـن غيـر تكلـف لذلـك ولا يرى لنفسه مقامًا أصلًا ولا يعرف التصنع في الأمور ولا دعوى علم ولا معرفة ولا مشيخة على التلاميذ والطلبة ولا يرضى التعاظم ولا تقبيل اليد وله منزلة عظيمـة فـي قلـوب الأكابـر والأمـراء والـوزراء والأعيـان ويسعـون إليه ويذهب إليهم لبعض المقتضيات والشفاعات ويرسل إليهم فلا يردون شفاعته ولا يتوانون في حاجة يتكلم فيها وله عندهـم محبـة ومنزلـة فـي قلوبهـم زيـادة عـن نظرائـه مـن الأشيـاخ لمعرفته بلسانهم ولغتهم واصطلاحهم ورغبتهـم فيمـا يعلمونه فيه من المزايا والأسرار والمعارف المختص بها دون غيره وخصوصًا أكابر العثمانييـن والـوزراء وأهـل العلـوم والفضـلاء منهـم مثل علي باشا ابن الحكيم وراغب باشا وأحمد باشا الكور وغيرهم ويأتون إليه أحيانًا في التبديل‏.‏

وأكرموه وهادوه كل ذلك مع العفة والعزة وعدم التطلع لشيء من أسباب الدنيا بوظيفة أو مرتب أو فائظ أو نحو ذلك‏.‏

وكان بينه وبين الأميـر عثمـان بـك ذي الفقـار صحبـة ومحبة وحج في أيام إمارته على الحج مرافقًا له ثلاث مرات من ماله وصلب حاله ولم يصله منه سوى ما كان يرسله إليه على سبيل الهدية وكان منزل سكنـه الـذي بالصنادقيـة ضيقـًا مـن أسفل وكثير الدرج فعالجه إبراهيم كتخدا على أن يشتري له أو يبنـي لـه دارًا واسعـة فلـم يقبل وكذلك عبد الرحمن كتخدا وكان له ثلاثة مساكن أحدها هذا المنزل بالقرب من الأزهر وآخر بالإبزارية بشاطئ النيل ومنزل زوجته القديمة تجاه جامع مرزه‏.‏

وفـي كـل منـزل زوجـة وسـرار وخـدم فكان ينتقل فيها مع أصحابه وتلامذته وكان يقتني المماليك والعبيد والجواري البيض والحبوش والسود ومات له من الأولاد نيف وأربعون ولدًا ذكورًا وإناثًا كلهـم دون البلـوغ ولـم يعـش لـه مـن الأولاد سوى الحقير وكان يرى الاشتغال بغير العلم من العبثيات وإذا أتـاه طالـب فـرح بـه وأقبـل عليـه ورغبـه وأكرمـه وخصوصـًا إذا كـان غريبـًا وربمـا دعاه للمحاورة عنده وصار من جملة عياله ومهم من أقام عشرين عامًا قيامًا ونيامًا لا يتكلف إلى شيء من أمر معاشه حتى غسل ثيابه من غير ملل ولا ضجر‏.‏

وأنجب عليه كثير من علماء وقتـه المحققيـن طبقـة بعـد طبقـة مثـل الشيـخ أحمـد الراشـدي والشيـخ إبراهيـم الحلبـي والشيـخ مصطفـى أبي الإتقان الخياط والسيد قاسم التونسي والشيخ العلامة أحمد العروسي والشيخ إبراهيم الصيحاني المغربي والطبقة الأخيرة التي أدركناها مثل الشيخ أبي الحسن القلعي والشيخ عبد الرحمـن البنانـي‏.‏

وأما الملازمون له فهم الشيخ محمد ابن اسعميل النفراوي والشيخ محمد الصبان والشيخ محمد عرفة الدسوقي والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد الشافعي الجناجي المالكي والشيخ مصطفى الريس البولاقي والشيخ محمد الشوبري والشيخ عبد الرحمن العريشي والشيخ محمد الفرماوي وهؤلاء كانوا المختصين به الملازمين عنده ليلًا ونهارًا وخصوصًا الشيخ محمد النفراوي والصبان ومحمد أفندي النيشي والفرماوي والشيخ محمد الأمير والشيخ محمد عرفة‏.‏

فإنهم كانوا بمنزلة أولاده وخصوصًا الأولين فإنهما كانا لا يفارقانه إلا وقت إقراء دروسهما وكان يباسـط أخصـاءه منهـم ويمازحهـم ويروحهـم بالمناسبـات والأدبيـات والنـوادر والأبيـات الشعريـة والمواليات والمجونيات والحكايات اللطيفة والنكـات الظريفـة وينتقلـون صحبتـه فـي منـازل بولـاق ومواطن النزهة فيقطعون الأوقات ويشغلونها حصة في مدارسة العلم وأخرى في مطارحات المسائل وأخرى للمفاكهة والمباسطة والنوادر الأدبية‏.‏

ومن الملازمين على الترداد عليه والأخذ عنه الشيخ محمد الجوهري والشيخ سالم القيرواني ومحمد أفندي مفتي الجزائر والسيد محمد الدمـرداش وولـداه السيـد عثمـان والسيـد محمـد‏.‏

وممـن تلقـى عنـه شيخ الشيوخ الشيخ علي العدوي تلقى شرح الزيلعي على الكنز في الفقه الحنفي وكثيرًا من المسائل الحكمية‏.‏

ولما قرأ كتاب المواقـف فكـان يناقشـه فـي بعـض المسائـل محققـو الطلبة فيتوقف في تصويرها لهم فيقوم من حلقته ويقـول لهـم‏:‏ اصبـروا مكانكـم حتـى أذهـب إلـى مـن هـو أعـرف منـي بذلـك وأعـود إليكم‏.‏

ويأتي إلى المترجم فيصورها له بأسهل عبارة ويقوم في الحال فيرجع إلى درسه ويحققها لهم وهذا من أعظـم الديانـة والإنصـاف‏.‏

وقـد تكـرر منـه ذلـك غيـر مـرة وكـان يقـول عنـه لم نر ولم نسمع من توغل فـي علـم الحكمـة والفلسفـة وزاد إيمانـه إلا هو رحم الله الجميع‏.‏

وممن تلقى عنه من أشياخ العصر العلامة الشيخ محمد المصيلحي والعلامة الشيخ حسن الجداوي والشيخ محمد المسودي والشيخ أحمـد بـن يونـس والشيـخ محمـد الهلبـاوي والشيـخ أحمـد السجاعـي لازمـه كثيـرًا وأخـذ عنه في الهيئة والفلكيات والهداية وألف في ذلك متونًا وشروحًا وحواشي‏.‏

وأما من تلقى عنه من الآفاقيين وأهالي بلاد الروم والشام وداغستان والمغاربة والحجازيين فلا يحصون وأجل الحجازيين الشيخ إبراهيم الزمزي‏.‏

وأما ما اجتمع عنده وما اقتناع من الكتب في سائر العلوم فكير جدًا قلما اجتمع ما يقاربها في الكثرة عند غيره من العلماء أو غيرهم‏.‏

وكان سموحًا بإعارتها وتغييرها للطلبـة وذلـك كـان السبـب فـي إتلـاف أكثرهـا وتخريمهـا وضياعهـا حتى أنه كان أعد محلًا في المنزل ووضع فيه نسخًا من الكتب المستعملة التي يتداول علماء الأزهر قراءتها للطلبة مثل الأشموني وابن عقيل والشيخ خالد وشروحه والأزهرية وشروحها والشذور وكذلك من كتب التوحيد مثل شروح الجوهرة والهدهدى وشرح السنوسية والكبرى والصغـرى وكتـب المنطـق والاستعارات والمعاني وكذلك كتب الحديث والتفسير والفقه في المذاهب وغير ذلك فكانوا يأتـون إلـى ذلك المكان ويأخذون ويغيرون وينقلون من غير استئذان فمنهم من يأخذ الكتاب ولا يرده ومنهم من يهمل التغيير فتضيع الكراريس ومنهم من يسافر ويتركها عند غيره ومنهم من يهمـل آخـر الكتـاب ويتفـق أن الاثنيـن والثلاثـة يشتركـون فـي الكتاب الواحد والنسخة الواحدة ولا بد من حصول التلف من أحدهم ولا بد من حصول الضياع والتلف في كل سنة وخصوصًا في أواخر الكتب عندما تفتر هممهم‏.‏

وأكثر الناس منحرفو الطباع معوجو الأوضاع واقتنى أيضًا كتبًا نفيسة خلاف المتداولة وأرسل إليه السلطان مصطفى نسخـًا مـن خزائنـه وكذلـك أكابـر الدولة بالروم ومصر وباشـة تونـس والجزائـر واجتمـع لديـه مـن كتـب الأعاجـم مثـل الكلستـان ويدوان حافظ وشاه نامه وتواريخ العجم وكليلة ودمنة ويوسف زليخا وغير ذلك وبها من التشاويه والتصاوير البديعة الصنعة الغريبة الشكل وكذلك الآلات الفلكية من الكرات النحـاس التي كان اعتني بوضعها حسن أفندي الروزنامجي بيد رضوان أفندي الفلكي كما تقدم في ترجمتها‏.‏

ولما مات حسن أفندي المذكور اشترى جميعها من تركت وكذلك غيرها من الآلات الارتفاعية والميالات وحلق الأرصاد والاسطرلابات والأربـاع والعـدد الهندسيـة وأدوات غالـب الصنائع مثل التجاريـن والخراطيـن والحداديـن والسمكريـة والملجديـن والنقاشيـن والصـواغ وآلـات الرسم والتقاسيم ويجتمع به كل متقن وعارف في صناعته مثل حسن أفندي الساعاتي وكان ساكنـًا عنـده وعابديـن أفنـدي الساعاتي وعلي أفندي رضوان وكان من أرباب المعارف في كل شيء ومحمد أفندي الإسكندراني والشيخ محمد الأقفالي وإبراهيم السكاكيني والشيخ محمد الزبداني وكان فريدًا في صناعة التراكيب والتقاطير واستخراج المياه والأدهان وغير هؤلاء ممن رأيت ومن لم أر وحضر إليه طلاب من الإفرنج وقرأوا عليه علم الهندسة وذلك سنة تسع وخمسيـن وأهـدوا لـه مـن صنائعهـم وآلاتهـم أشيـاء نفيسـة وذهبـوا إلى بلادهم ونشروا بها ذلك العلم مـن ذلـك الوقـت وأخرجـوه من القوة إلى الفعل واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء وجر الأثقال واستنباط المياه وغير ذلك‏.‏

وفي أيام اشتغاله بالرسم رسم ما لا يحصى من المنحرفات والمزاول على الرخامات والبلاط الكذان ونصبها في أماكن كثيرة ومساجد شهيرة مثل الأزهر والأشرفية وقوصون ومشهد الإمام الشافعي والسادات‏.‏

وفي الآثـار منـاه ثلاثـة واحدة بأعلى القصر وأخرى على البوابة وأخرى عظيمة بسطح الجامع بقي منها قطعة وكسر باقيها فراشو الأمراء الذين كانوا ينزلـون هنـاك للنزاهـة ليمسحـوا بهـا صوانـي الأطعمـة السفـر وكذلك بورد أن بالتماس مصطفى أغا الورداني وكذلك بحوش مدفن الرزازين بالتماس رضوان جربجي الرزاز رحمه الله ولما تمهر الآخذون عنه والملازمون عنده ترك الاشتغال بذلك وأحال الطلاب عليهم فإذا كان الطالـب مـن أبنـاء العـرب تتقيـد بتلميـذه الشيـخ محمـد ابـن اسمعيـل النفراوي وإن كان من الأعاجم والأتراك تقيد بمحمود أفندي النيشي‏.‏

واشتغل هو بمدارسة الفقه وإقرائه ومراجعة الفتاوى والتحري في الفروع الفقهية والمسائل الخلاقية وانكب عليه الناس يستفتونه في وقائعهم ودعاويهم‏.‏

وتقرر في أذهانهم تحريه الحق والنصوص حتى أن القضاة لا يثقون إلا بفتواه دون غيره وتقيد للمراجعة عنده الشيخ عبد الرحمن العريشي فانفتحت قريحته وراج أمـره وترشح بعده للإفتاء‏.‏

وكان المترجم لا يعتني بالتأليف إلا في بعض التحقيقات المهمة منهـا نزعـة العينيـن فـي زكـاة المعدنيـن ورفـع الأشكال بظهور العشر في العشر في غالب الأشكال والأقوال المعربة عن أحوال الأشربة وكشف اللثام عن وجوه مخدرات النصف الأول من ذوي الأرحام والوشي المجمل في النسب المحمل والقول الصائب في الحكم على الغائب وبلوغ الآمال في كيفية الاستقبال والجداول البهية برياض الخزرجية في علم العروض وإصلاح الأسفار عن وجـوه بعـض مخـدرات الدر المختار ومآخذ الضبط في اعتراض الشرط على الشرط والنسمات الفيحية على الرسالة الفتحية والعجالة على أعدل آلة وحقائـق الدقائـق علـى دقائـق الحقائـق وأخصر المختصرات على ربع المقنطرات والثمرات المجنية من أبواب الفتحية والمفصحة فيمـا يتعلـق بالأسطحـة والـدر الثميـن فـي علـم الموازيـن وحاشيـة على شرح قاضي يزادة على الجغميني لم تكمل وحاشية على الدر المختار لم تكمل ومناسك الحج وغير ذلك جواش وتقييدات على العصام والحفيد والمطول والمواقف والهداية في الحكمة والبرزنجي على قاضي زاده وأمثله وبراهين هندسية شتى‏.‏

وما له من الرسومات المخترعة والآلات النافعة المبتدعة ومنها الآلة المربعـة لمعرفـة الجهـات والسمـت والانحرافـات بأسهـل مأخـذ وأقـرب طريق والدائرة التاريخية وبركـار الدرجـة‏.‏

واتفـق أنه في سنة اثنتين وسبعين وقع الخلل في الموازين والقبابين وجهل أمر وضعهـا ورسمهـا وبعـد تحديدها وريحها ومشيلها واستخراج رمامينها وظهر فيها الخطأ واختلفت مقادير الموزونات وترتب على ذلك ضياع الحقوق وتلاف الأموال وفسد على الصناع تقليدهم الذي درجوا عليه فعند ذلك تحركت همة المترجم لتصحيح ذلك وأحضر الصناع لذلك من الحدادين والسباكين وحرر المثاقيل والصنج الكبار والصغار والقرسطونات ورسمهـا بطريـق الاستخـراج علـى أصـل العلـم العملـي والوضع الهندسي وصرف على ذلك أموالًا من عنده ابتغاء لوجه الله ثم أحضر كبار القبانية والوزانين مثـل الشيـخ علـي خليـل والسيـد منصـور والشيـخ علـي حسـن والشيـخ حسـن ربيـع وغيرهـم وبيـن لهـم ما هم عليه من الخطأ وعرفهم طريق الصواب في ذلك وأطلعهم على سر الوضع والصنعة ومكنونها وأحضروا العدد وأصلحوا منها مـا يمكـن إصلاحـه وأبطلـوا مـا تقـادم وضعـه وفسـدت لقمه ومراكزه وقديوا بصناعة ذلك الأسطى مراد الحداد ومحمد ابن عثمان حتى تحررت الموازين وانضبط أمرها وانصلح شأنها‏.‏

وسرت في الناس العدالة الشرعية المأمورين بإقامتها واستمر العمل في ذلك أشهرًا وهذا هو السبب الحامل له على تصنيف الكتاب المذكور وهذا هو ثمرة العلم ونتيجة المعرفة والحكمة المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ يؤتي الحكمة من يشاء‏.‏

ولما وصل إلى مصر الشيخ إبراهيم بن أبي البركات العباسي البغدادي الشهير بابن السويدي في سنة 1175 وكان إمامًا فاضلًا فصيحًا مفوهًا ينظم الشعر بالإملاء ارتجالًا في أي قافية من أي بحر من غير تكلف فأنزلـه المترجـم وأكرمـه واغتبـط بـه وصار يتنقل صحبته مع الجماعة بمنازل بولاق والمنتزهات‏.‏

واتفق أنه تمرض أيامًا فأقام بمنزل بولاق المشرف على النيل فقيد به من يعوله ويخدمه ويعلل مزاجه فكان كلما اختلى بنفسه وهبت عليه النسمات الشمالية والنفحات البحرية أخذ القلم ببنانه ونقش على أخشابه وحيطانه فكتب نحو العشرين قصيدة على مواقف عديدة كلها مدائح فـي المذكـور والرياض والزهور والكوثر والسلسبيل وجريان النيل وتركت بحالها وذهبت كغيرها‏.‏

وفي سنة تسـع وسبعيـن توفـي ولـده أخـي لأبـي أبـو الفلـاح علـي وقـد بلـغ مـن العمر اثنتي عشرة سنة‏.‏

فحزن عليه وانقبض خاطره وانحرف مزاجه وتوالت عليه النوازل وأوجاع المفاصل وترك الذهاب إلى بولاق وغيرها ونقل العيال من هناك ولازم البيت الذي بالصنادقية واقتصـر عليـه وفتـر عـن الحركـة إلا فـي النـادر‏.‏

وصـار يملـي الـدروس بالمنـزل ويكتب على الفتاوى ويراجع المسائل الشرعية والقضايا الحكمية مع الديانة والتحري والمراجعة والاستنباط والقياس الصحيح ومراعاة الأصول والقواعد ومطارحات لتحقيقات والفوائد‏.‏

وتلقي الوافدين وإكرام الواردين وإطعام الطعام وتبليغ االقاصد المرام ومراعاة الأقارب والأجانب مع البشاشة وليـن الجانـب وسعـة الصـدر وحسـن الأخلاق مع الخلان والأصحاب والرفاق ويخدم بنفسه جلاسه ولا يمل معهم إيناسه ولا يبخل بالموجود ولا يتكلف المفقود ولا يتصنع في أحواله ولا يتمشدق في أقواله ويلاحظ السنة في أفعاله‏.‏

ومن أخلاقه أنه كان يجلس بآخر المجلس على أي هيئة كان بعمامة وبدونها ويلبس أي شيء كان ويتحزم ولو بكنار الجوخ أو قطعة خرقة أو شال كشميري أو محزم ولا ينام علـى فراش ممهد بل ينام كيفما اتفق وكان أكثر نومه وهو جالس وله مع الله جانب كبير كثير الذكر دائم المراقبة والفكر ينام أول الليل ويقوم آخره فيصلي ما تيسر من النوافل والوتر ثم يشتغـل بالذكر حتى يطلع الفجر فيصلي الصبح ويجلس كذلك إلى طلوع الشمس فيضطجع قليلًا أو ينام وهو جالس مستندًا وهذا دأبه على الدوام‏.‏

ويحاذر الرياء ما أمكن وكان يصوم رجب وشعبـان ورمضـان ولا يقـول إني صائم وربما ذهب بعض الأعيان أو دعي إلى وليمة فيأتون إليه بالقهوة والشربات فلا يرد ذلك بل يأخذها ويوهم الشرب وكذلك الأكل ويضايع ذلك بالمؤانسة والمباسطـة مـع صاحـب المكـان والجالسيـن‏.‏

وكـان مع مسايرته للناس وبشاشته ومخاطبته لهم على قدر عقولهم عظيمة الهيبة في نفوسهم وقورًا محتشمًا ذا جلال وجمال‏.‏

وسمعت مرة شيخنا سيدي محمودًا الكردي يقول‏:‏ أنا عندما كنت أراه داخلًا في دهليز الجامع يداخلني منه هيبة عظيمة وأدخل إلى رواقنا وأنظر إليه من داخل وأسأل المجاورين عنه فيقولون لي هذا الشيخ الجبرتي فأتعجب لما يداخلني من هيبته دون غيره من الأشياخ فلما تكرر علي ذلك أخبرت الأستاذ الحنفي فتبسم وقال لي نعم إنه صاحب أسرار‏.‏

وكان مربوع القامة ضخم الكراديس أبيـض اللـون عظيـم اللحيـة منـور الشيبة واسع العينين غزير شعر الحاجبين وجيه الطلعة يهابه كل مـن يـراه ويـود أنـه لا يصـرف نظـره عـن جميـل محيـاه‏.‏

ولـم يـزل علـى طريقته المفيدة وأفعاله الحميدة إلى أن آذنـت شمسـه بالـزوال وغربـت بعدما طلعت من مشرق الإقبال وتعلل اثني عشر يومًا بالهيضة الصفراوية فكان كلما تناول شيئًا قذفته معدته عندما يريد الاضطجاع إلى أن اقتصر على المشروبـات فقـط وهـو مع ذلك لا يصلي إلا من قيام‏.‏

ولم يغب عن حواسه وكان ذكره في هذه المـدة يقـرأ الصمديـة مـرة ثـم يصلـي على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغة السنوسية كذلك ثم الاسم العشرين من الأسماء الإدريسية وهو‏:‏ يا رحيـم كـل صريـخ ومكـروب وغياثـه ومعـاذه هكـذا كان دأبه ليلًا نهارًا حتى توفي يوم الثلاثاء قبيل الزوال غرة شهر صفر من السنة وجهز في صبحة يوم الأربعاء وصلي عليه بالأزهر بمشهد حافل جدًا ودفن عند أسلافه بتربة الصحراء بجوار الشمس البابلي والخطيب الشربيني ومات وله من العمر سبع وسبعون سنة‏.‏ ومات